عقل العويط –
تعرض “غاليري كاف” الأشرفيّة ابتداءً من الأوّل من تشرين الأوّل إلى الثاني عشر منه، خمس عشرة لوحة تنقيطيّة بالأكريليك على قماش، كبيرة الحجم، للرسّامة زينة نادر، حيث الحالة (اللونيّة) هي دائمًا السبّاقة في التعبير، وفي مقاربة السطح وتأثيثه، ومنحه البوصلة التي تنبئ بما سيكون عليه الشكل، وكيف سينمو، ويتطوّر، ويكتمل.
مقاربة الرسّامة للسطح التشكيليّ هي مقاربة تستعيد لحظاتٍ وذكرياتٍ وعطورًا وأنفاسًا وأحلامًا وأحاسيس وأماكن، غائرة في الجسد والنفس، يصعب الإفلات منها، لأنّها متجذّرة في الباطن العميق، في اللّاوعي، في الماضي، في الطفولة، في النوم، وفي أوقات الانتباه الطفوليّ الطيّب المذاق.
وعندما يتحقّق الاختمار ويحين أوان التعبير، تختار الحالة ألوانها وأشكالها، مثلما يختار الشتاء هواءه وصقيعه وغيومه وأمطاره. وما يُقال عن لحظةٍ في الطبيعة، يُقال عن اللحظات كلّها، المَعيشة والمتذكَّرة والمحلومة. فما بالك إذا كان الوقت ربيعًا أو صيفًا أو خريفًا، أو كان مزيجًا من هذه الأوقات وأحوالها وتمازجاتها واختلاطاتها وتزاوجاتها وأمزجتها.
وإذ “يختار” كلّ توقيتٍ ما يفترض أنْ تكون عليه كينونته الشكليّة والأسلوبيّة واللونيّة، يتبادر إلى الناظر أنّ ذلك ربّما يكون يتحقّق بالحدس الانطباعيّ الاختباريّ التجريبيّ البديهيّ أكثر منه بمتانة التقنيات والخبرات الأكاديميّة، لكن من دون أنْ يفضي ذلك إلى أشكالٍ وسطوحٍ شبيهةٍ بالفوضى المجّانيّة الخلّاقة، على رغم ما يمكن أنْ ينشأ عن هذه التجربة وتلك من نقاط التقاءٍ جمّة.
صحيحٌ أنّ الناظر قد يجد نفسه مدعوًّا إلى “استدعاء” لوحة بولوك، إلّا أنّ الشكل في لوحة زينة نادر لا ينمو اعتباطيًّا، بل يولد جنينُهُ من الحالة، والحالة هي سلطةٌ متمكّنة، وهي لونٌ وألوان، واللون والألوان في بحثٍ تلمّسيٍّ عن الجسم الملائم، وليس ثمّة ما يستدعي الافتراض أنّ ذلك نزقٌ تشكيليٌّ فوضويّ غير مضبوط. هذه المقاربة التشكيليّة للعمل الفنّيّ تجد مبرّراتها وذرائعها في “دولة الذات العميقة” اللّاواعية، التي تملي قوانينها الأوّليّة، وترشد وعي الرسّامة إلى الهيئة النهائيّة التي سيكون عليها السطح.
في منطقٍ تشكيليٍّ كهذا المنطق، مَن يمكنه أنْ ينال من شروق الشمس، من الغروب، من لحظة التماسّ بين الأشعّة والأمكنة، أو من نزول الثلج على مشاعر الشجر والبيوت وأحلامها لحظتذاك؟ مَن يمكنه أنْ يحول دون التطريز العفويّ الذي يشعر به جسد امرأة تحت الحبّ، تحت الجنس، تحت الماء، تحت الرغبة، أو في ذروة النشوة؟
يستطيع الناظر في لوحة زينة نادر أنْ يسترسل في تصوّر لحظات اندلاق اللون، لحظات القذف، لحظات التشظّي، ولحظات تردّدات الصدى والرجع، واتّساع البقعة، واستفحالها المتنامي، وما يمكن أنْ يستحدثه ذلك الفعل من أشكالٍ دؤوبة على القماشة. وإذ تربط الفنّانة بين عمليّة الرسم والقوانين الفيزيائيّة للحركة، فإنّ غايتها هي تثبيت التنقيط في حين يتولّى اللون تحريك الناحية الفيزيائيّة، حيث تبدو اللوحة كأنّها موجّهة إلى الإدراك البصري أكثر مما هي موجهة إلى المخيّلة، أو كأنها من عمل الصدفة والمصادفة. مع ضرورة التشديد على تحكّم الرسّامة بـ”اللعبة” حين تجعلها نتيجة مباشرة لأحاسيس محدّدة تدرك وظيفتها في شكلٍ حدسيّ. ألا يقول جاكسون بولوك إنّ الأمر يشبه الدخول في اللوحة حيث يصبح الفنان جزءًا منها؟